إن علاقة النص بالتراث توشك إن بحثت في عمومها أن تتناول مشاكل تخرج عن إطار عمل كعملنا هذا مختص.
ومن هذه المشاكل العام المشترك بين النصوص الأدبية كافة، بل بين أصناف الكلام جميعاً. ذلك أن المتكلم باللغة يحتذي في كلامه بالضرورة نماذج من كلام السابقين ويتصرف في ثمرات خبرتهم نسخاً، واستصحاباً وتكراراً وتحويلاً.
ومنشئ النص الأدبي، بالإضافة إلى هذه المواضعة العامة، يستند إلى مواضعات حقله الخاص به ونعني الحقل الأدبي، وهو حقل يتشكل عبر الزمان من تفاعل نصوص ذات خصائص بنائية ولغوية مميزة. فإذا «النص الواحد من الأدب لا يخلو من وجهين فيه، الكتابة فيه وجه، والقراءة فيه وجه آخر، ومرجع الإبداع فيه إلى التوليد لا إلى الإنشاء»1.
وتصدق على الشعر العربي هذه المسلمات العامة وتضاف إليه سمات خاصة نابعة من خصائص الثقافة العربية. ولئن خرج تحليل هذه الخصائص عن حدود عملنا هذا فإنه لا بد من الإلماح إلى متانة اللحمة بين إنتاج العرب الأدبي عبر تاريخهم وقوة حضور تراثهم نصوصاً وأجناساً وسنناً بنائية وبلاغية في كل ما ينشئون.
(1) محمد الهادي الطرابلسي: شعر على شعر: معارضات شوقي بمنهج الأسلوبية المقارنة - مجلة فصول. ج 3 ع 21 أكتوبر - ديسمبر 1982
ومع أن هذه الأطر الثلاثة - اللساني فالأدبي فالعربي - تكتنف مدونتنا وتشملها فإننا سنقتصر على طرح المسألة طرحاً تطبيقياً مقصوراً على مدونتنا، راجين الإسهام بهذا الجهد المتواضع في إثارة القضايا العامة المحيطة بها.
ولن نشتغل هنا بقضايا «التأثر والتأثير» والسرقات الشعرية وما إليها من مظاهر توالد النصوص في صياغتها التقليدية، والتي تفضي إلى تعميم وتنظير ويعسر الخروج منها بأحكام باتة، ما دامت تفتقر إلى جهاز مفهومي محكم مشتق من طبيعة الإشكال الذي تقوم عليه.
بل سنسعى بالاستفادة من عشرة المدونة واستلهام بعض الدراسات الحديثة إلى التساؤل عن أنواع العلاقات التي تربط نصوص مدونتنا بتراث العرب الشعري. فمبحث «الصلة بين النصوص»1 إذن مبحث بنائي علائقي لا تحليلي سردي.
وإن من دواعي تولينا هذه الوجهة العلائقية، بالإضافة إلى عسر تحديد مفهومي التأثر والسرقة، أنه ليس لنا علم دقيق بثقافة الشعراء النصية، ولا معلومات مضبوطة على الدواوين المتداولة عندهم.
فنحن نعلم أن بعض النصوص الشعرية كانت عماد الثقافة اللغوية والأدبية - كديوان غيلان والستة الجاهليين - ولكن ما أسلفناه في الإطار التاريخي من تنوع مواد الدرس الأدبي واختلاف حظوظ المدارس منه، يجعلنا غير قادرين على البت بأن شاعراً ما قد قرأ المتنبي أو لم يقرأ ابن زيدون مثلاً.
وفي ظل هذا النقص البيبليوغرافي يغدو البحث التفصيلي في علاقة النسب بين النصوص ضرباً من القيافة هو إلى الحدس والتخمين أقرب.
وللصلة بين مدونتنا والتراث وجه عام مشترك بين الشعراء جميعاً. فإنشاء القصيدة العربية وتبني سننها وضوابطها العروضية والمعجمية والبلاغية والبنائية هو في حد ذاته استلهام صريح لتراث العرب الشعري، بما تدل عليه كلمة الانتماء من علاقة نسب. وهذه الصلة العامة بالتراث، التي تتحدد في مستوى القصيدة باعتبارها نوعاً أدبياً هي التي ندعوها صلة نوعية1.
ونشير هنا إلى أن هذه الصلة النوعية التي ينتمي بموجبها النص إلى نوع أدبي هو القصيدة كانت دائماً عند شعرائنا علاقة جدية قوامها الاحترام والإجلال2.
فقد كان الشاعر الشنقيطي برا بأسلافه، لم نقف له على نص سخر فيه من أساليبهم ولا حولها تحويل هازئ أو منتقد، وهذا أمر يتماشى مع ما حللناه في فصل النص والمجتمع من أن إجادة الشعر القديم كانت في حد ذاتها مطمحا للشاعر يشرفه الرقي إليه، فضلاً عما يطبع البنية الزاوية الثقافية من سلفية راسخة.
ولكن هذا البر بالآباء لم يمنع أحد شعرائنا أن يضيق بحضورهم الخانق ذرعاً ويعلن أنهم قد استنفدوا الإمكانات المتاحة في إنشاء الشعر فلم يدعوا لقائل مقالاً، وأنهم بإجادتهم وإكثارهم قد أوقعوه ومعاصريه في أزمة لا يجدون منها مخرجاً.
ذلك موقف ابن الشيخ سيديا المتميز في قصيدة سبقت لنا بها عناية وهي تتضمن وقفة نقدية لا نجد لها مثيلاً في المدونة كلها، بل لا نعرف شاعراً عربياً آخر تناول أزمة التعامل مع التراث في قصيدة كاملة وأرسل لنفسه فيها العنان تحليلاً وتفصيلاً.
والقصيدة كما ذكرنا تشكو محنة الشاعر يطلب الإبداع فيحاصره ما أبدع السابقون، فهي تبدأ بهذه الاستغاثة:
يا معشر البلغاء هل من لوذعي .. يهدى حجاه لمقصد لم يبدع؟
إني هممت بأن أقول قصيدة .. بكرا فأعياني وجود المطلع!
ولم يخف على الشاعر أن البلغاء سيفزعون إلى الموروث الشعري يستمدون منه طلبتهم، ففيه عشرات النماذج من المطالع الممكنة المُفضية إلى مثيلاتها من القصائد الممكنة.
ولكن ابن الشيخ سيديا يبادر منذراً أن هذا الحل السهل لا يفي بمراده، لأن كل هذه المطالع والقصائد لم يترك فيها القدماء موطئ قدم بل ولا موضع إصبع، وهو يعد أغراض الشعر العربي القديم ومعانيه عد خبير مطلع:
وحذار من خلع العذار على الديا .. ر ووقفة الزوار بين الأربع
وإفاضة العبرات في عرصاتها .. وتردد الزفرات بين الأضلع
ودعوا السوانح والبوارح واتركوا .. ذكر الحمامة والغراب الأبقع
وبكاء أصحاب الهوى يوم النوى .. والقوم بين مودع ومشيع
وتجنبوا حبل الوصال وغادروا .. نعت الغزال أخي الدلال الأتلع
وسُرى الخيال على الكلال لراكب .. الشملال بين النازلين الهجع
ودعوا الصحارى والمهارى تغتلي .. فيها فتفتلها بفتل الأذرع
وتواعد الأحباب أحقاف اللوى .. ليلا وتشقيق الردا والبرقع
وتهاديَ النسوان بالأُصلان في .. الكثبان من بين النقا والأجرع
والخيل تمزع في الأعنة شزبا .. كيما تُفزع ربربا في بلقع
والزهر والروض النضير وعرفه .. والبرق في غر الغمام الهمع
والقينة الشنبا تجاذب مزهرا .. والقهوة الصهبا بكأس مترع
وتحادث السمار بالأخبار من .. أعصار دولة قيصر أو تبع
وتداعي الأبطال في رهج القتا .. لِ إلى النزال بكل لدن مشرع
وتطارد الفرسان بالقضبان وال .. خُرصان بين مُجرَّد ومقنَّع
وتذاكر الخطباء والشعراء .. للأنساب والأحساب يوم المجمع
ومناقب العلماء والكرماء وال .. صُّلحاء أربابِ الق لوب الخشَّع
فجميع هذا قد تداوله الورى .. حتًّى غدا ما فيه موضِعُ أِصبعِ
بل إن قدماء الشعراء أنفسهم قد ابتلوا بهذه المحنة، فعنترة هو القائل «هل غادر الشعراء من متردم»١، وكان زهير ينقح القصيدة سنة فيخرجها حولية محككةً، فما ظنك بأهل القرن الثالث عشر الهجري في بلاد شنقيط؟
هل غادرت “هل غادر الشعراء” في .. بحر القريض لوارد من مشرع
والحول يمكثه زهير حجة .. أن القوافي لسن طوع الإمع
ولا شك أن من الشعراء من حاول الخروج من هذه الأزمة بطرق مواضيع لم يطرقها القدماء أو ابتداع أساليب لم ينتهجوها. وهنا تقف سنن الثقافة العربية سداً منيعاً إذ المسلك واحد لاحب، ولا أدب إلا ما انتسب إلى القدماء شرعي انتساب، ومن شذ فقد ضل ضلالاً مبيناً:
إن القريض مزلة من رامه .. فهو المكلف جمع مالم يجمع
إن يتبع القدما أعاد حديثهم .. بعد الفشو وضل إن لم يتبع
ولقد كان المنطق يقتضي من ابن الشيخ شيديا بعد أن وصل إلى هذا المأزق أن يقلع عن القريض بتاتاً ولكن الحاجة المتأصلة إليه دعته إلى محاولة الخروج من الأزمة بتصور عماده مفهومان:
أولهما مفهوم التطريب الذي اعتبره غاية الشعر الأساسية، وحاكم بمقتضا ه أشعار معاصريه فرآها تؤدي إلى عكسه فأبطل جدواها:
الشعر لِلتَطْرِيب أُوَلُ وَضْعِهِ .. فَلِغَيْر ذَلِكَ قَبْلَنا لَمْ يُوضَعِ
وَالْيَوْمَ صارَ مُنكِّداً، وَوَسِيلَةٌ .. قَدْ كَانَ مَقْصِدُها انتفى لَمْ تُشْرَع
وثاني المفهومين، ولعله الأخفى والأدق، وهو التجدد الذاتي الذي تتمتع به النصوص الجيدة، ويسمح بإعادة قراءتها ومن ثم بإعادة إنتاجها دواماً دون أن تستنفد طاقاتها الدلالية والجمالية وهذا ما استخلصناه من وصفه الشعر الجيد بقوله:
ينساغ للأذهان أَوَّلَ مَرّةِ .. وَيَزِيدُ حسنا ثانيا في الْمَرْجع
فيَخَالُ سَبْقَ السّمْع مَنْ لَمْ يَسْتَمَعْ .. وَيَعُودُ سَامِعُهُ كَأَنْ لَمْ يَسْمَع
كَالروْض يَعْدُو السَرْحُ فيه وينثني .. بَعْد الرّوَاح كَأَنَّهُ لَمْ يَرْتع
فباسم هذا التجدد يستمر الشعراء في الإنتاج رغم الأزمة، ولكنهم مطالبون بالرقي إلى مستوى هذه النصوص التي لا تبلى على كثرة الرد، ولا تبطل على تكرار القراءة، وإلا فعملية الإنشاء عبث:
مَنْ كَانَ مُسْطَّاعاً لَهُ فليأتهِ .. وَلْيقْنَ رَاحَته امرؤٌ لَمْ يَسْطع
وباستثناء ابن الشيخ سيديا لا نجد في المدونة كلها تناولاً صريحاً للصلة بالتراث الشعري على أنها صلة أزمة، والإشارات القليلة التي يلمح فيها بعض الشعراء إلى هذه العلاقة تندرج في نطاق ما ذكرناه قبلُ من البر بالأسلاف وتوقيرهم واعتبار صحة الانتساب إليهم منتهى الآمال. فهذا ابن حنبل يقول مفتخراً:
وقريض بت أبني فغدا .. مثل نظم الغيد تقصار الذهب
إخذا من لحن أقحاح اللغى .. مضغ القيصوم والشيح النخب
ماتعاطى اللسنُ في أندائهم .. وتعاطوه بأفواه القُلُب
وأداروهُ زمانا بينهم .. لابتناءِ الفخر أيام الغلب١
وابن السالم يطري قصيدة له مدح بها الشيخ سيديا، معتمداً في إطرائها على أنها حاولت اللحاق بكبار الشعراء، داعياً الممدوح إلى أن يتسامح معها في القراءة حتى يلحقها بذلك الرعيل:
غوث البرية إن هذي مِدحة .. صيغت على منوال شعر الأُّوَّلِ
مِنوالِ حسانَ المؤيَّد أو علي .. مِنوالِ عنترة بن شدادِ العلي
في زعم قائلها، فما لم يستقم .. منها إلى مايستقيمُ فحوِّلِ
وإذا تجاوزنا هذه الصلة النوعية التي ينتسب بموجبها الشعراء إلى أسلافهم انتساباً عاماً مشتركاً ويندرج نتاجهم في سلك القصائد العربية، فإننا نستطيع أن نتبين ضروباً من ال صلات بين نصوصنا والتراث نعرض لها الآن بالتفصيل. ومن المفيد قبل ذلك أن نوضح أنه يندر جداً في نصوص مدونتنا ما يصرح صاحبه أو تقول البيانات التاريخية: إن له صلة مقصودة أو صريحة بنص من نصوص التراث معين.
فالمعارضة بمفهومها المتداول القائم على «الاشتراك في البحر والقافية مع النزعة إلى الاشتراك في الغرض» بين قصيدتين هي ظاهرة نادرة في المدونة جداً لا تكاد تتجاوز نصين لابن الطلبه اليعقوبي مقطوعاً بطابع المعارضة فيهما, ونصين هذا الطابع فيهما محل شك: أحدهما لابن الطلبه نفسه والثاني لابن حنبل.
وعليه تكون الصلة النوعية العامة غالبة على المدونة مشتركة بين شعرائها كافة، ويكون ما سواها من ضروب الصلات، حالات خاصة بنصوص أو شعراء أو أغراض وهذه الصلات الخاصة تختلف وتتنوع مستوياتها، ذلك أن «الحد الأدنى المشترط، بمعنى العنصر الموجب للتقريب قد يكون اشتراكاً في الموضوع أو الغرض العام مع الاشتراك في المؤلف أو عدم الاشتراك فيه أو اشتراكاً في المؤلف مع اختلاف في الموضوع أو الغرض أو في جنس الكتابة، كما قد يكون الاشتراك في نوع الأسلوب فقط.»
فقد يكون الجامع بين النص الأصل والنص المشتق سمات أسلوبية، وهو ما ندعوه المعارضة الأسلوبية، أو اتحاد البحر والقافية، وهو ما نسميه المعارضة العروضية أو تناول غرض معين وهي المعارضة الغرضية.
وهذه السمات الثلاث قد تجتمع أو اثنتان منها فقط أو تنفرد منها واحدة.
وبذلك يتسنى ضبط سلم ترتيبي للنصوص حسب تضاعف وجوه الصلة بينها، وأقواها المعارضة الأسلوبية العروضية الغرضية وهي التي ينشأ فيها النص المشتق على بحر النص الأصل ورويه، متناولاً غرضه متسماً بخصائصه الأسلوبية، وبعد هذه المعارضة تتدرج الضروب الأخرى بالشكل المبسط التالي مع ذكر الأمثلة، وترك الجدول مفتوحاً:
النص المشتق | النص الأصل | معارضة غرضية | معارضة عروضية | معارضة أسلوبية |
---|---|---|---|---|
جيمية ابن الطلبه | جيمية الشماخ | + | + | + |
شعر ابن الطلبه | القصيدة الجاهلية | + | + | |
نهج البردة لشوقي | بردة البوصيري | + | + | |
رائية ابن حنبل | همزية البوصيري | + |
ونحن نتبين بين نصوص من المدونة وبعض نصوص التراث، ثلاثة أنواع من الصلات نجمعها كلها تحت مصطلح عربي قديم هو المعارضة مع إضافة نعوت تخصص معناه.
وما يزال مفهوم المعارضة في الشعر العربي يحتاج إلى ضبط وتعميق، رغم التقدم الكبير الذي أحرز في الاهتمام به خلال السنوات الأخيرة منذ اتجهت الدراسات إلى تجديد مناهج النظر في هذه الظاهرة الأدبية الطريفة وتتبع أساليبها وتحديدها.
وإن مفهوم المعارضة عندنا أوسع من معارضة قصيدة بأخرى مع الاحتفاظ بالبحر والروي والتصرف في المعاني وإن كان هذا أبرز مظاهرها المدروسة إلى الآن، بل إننا نرى إمكان تبين عدة أنواع من الصلات بين النص الأصل والنص المشتق، مما يسمح بضبط تصنيف علائقي لهذه الصلات.
ونحن انطلاقاً من التصنيف الذي أبنا إمكانه، نقف في مدونتنا على ضربين من المعارضة أساسيين هما المعارضة الأسلوبية والمعارضة الغرضية.