الرئيسيةأدب وفنفكر و سياسةتاريخخرائطمعرض 📸 من نحن

مختارات من القديم: الشعر والشعراء للخليل النحوي

الخليل النحوي
الخليل النحوي
29 يناير 1987
مختارات من القديم: الشعر والشعراء للخليل النحوي

الشعر والشعراء

(من كتاب “بلاد شنقيط المنارة .. والرباط”)

الخليل النحوي 2022.jpg

بقلم الخليل النحوي - تونس 1987

في رحاب المحضرة، نبت الشعر نباتا حسنا وتقبله الناس قبولا حسنا وتعاطوه حفظا ونظما حتى قيل عن بلاد شنقيط أنها «بلاد المليون شاعر».
ولسنا نعرف الكثير عن نشأة الشعر في هذه البلاد، فهناك قرون مظلمة لم تفض بعد بشيء من أسرارها، ومن المرجح ان تكون البلاد قد عرفت فيها شعرا ذا قيمة لأن عمداء الشعراء المعروفين (سيدي عبد الله بن محمد1144 ه ومحمد اليدالي 1166 ه ومعاصرهما بوفمين) تركوا لنا شعرا كان قد تمعدد وبلغ أشده واستوى، فلا بد أن مرحلة طفولة شعرية قد سبقته.

ولدينا نتف قليلة من المعلومات تبرر هذا الافتراض؛ ففي عهد المرابطين كان الامام الحضرمي، المعلم الثاني في البلاد وقاضي مدينة أزوكي يكتب الشعر وله مقطعات ملحقة بكتابه «السياسة».

وفي القرن السابع الهجري كان محمد غلي، أحد بناة شنقيط - الثانية؛ يكتب الشعر، وما زال أحفاده، من قبيلة الاغلال يتداولون شعرا، في الدعاء والتضرع الى الله ينسبونه إليه.

وفي القرن الحادي عشر تقول الروايات الشعبية، أن ناصر الدين، إمام الزوايا وقائدهم في «شرببه» جلد الحبيب بن بلا اليعقوبي وأمر أن يطاف به مصفدا لأنه نظم هذين البيتين:

رب حوراء من بني سعد لوس :: ‏ حبها عالق بذات النفوس
جعلت بيننا وبين الغواني :: والكرى والجفون حرب البسوس

لقد فقد كثير من انتاج عصر النهضة الأدبية في بلاد شنقيط (ق ‎13 – 11 ه) فلا جرم أن يكون الشعر قد وجد قبلئذ وفقد.

ويسوق محمد المختار ابن أباه دليلا على هذا الافتراض ثبوت مساجلات شعرية بين ألما العربي وأهل بارك الله لم يصلنا منها شيء ذو بال على قرب العهد (ق ‎13 ‏ه).

وقد رأينا سيدي عبد الله بن محمد يخاطب محمد الكريم بن الفاضل ردا على قصيدة له:

عدمنا قبل شعرك كون ‏ شعر :: قوافيه من الدر اليتيم

ولكن هذا الدر اليتيم لم يصلنا…

ورغم عوادي الزمن، فقد وصلنا من الشعر ما فيه بيّنة لدعوى المدعين أن المجتمع الشنقيطي كان مجتمعا من الشعراء.. لقد كان أبناء الزوايا وطلبة المحاضر عموما يتعاطون الشعر بيسر وبكثرة. وبه لا بالنثر كان معظم مساجلاتهم ومراسلاتهم في رحاب المحضرة، وكثيرا ما يكون سمر المحضرة ندوة شعرية يتبارى فيها الطلبة في رواية الشعر ونظمه وقد يسر لهم الشعر حتى ظنوا أنهم يرضعونه من ثدي الأمهات. وفي ذلك يقول محمد فال بن عينين:

الطفل يولد ‏ فينا كابن ساعدة :: منقحا دررا أصدافها ‏ ذهب
انظر الى مالنا من كل قافية :: لها تذم ‏ شذور الزبرج القشب

وقد اتخذ هذا الشاعر من شاعرية قومه وفصاحتهم وبلاغتهم شاهدا على عروبتهم. وسما محمد بن السالم البنعمري بنسبه الثقافي الى قريش، مدللا بسليقته الشعرية وبأنه مطبوع على الفصاحة وإن لم يتعلم النحو:

مصداق أنى كريم العيص منتسب :: إلى قريش بيوت العز والجدل
نسجى القريض وإحكامي قوافيه :: ولا أميز بين العطف والبدل

وكان محمد الحافظ بن فتى شاعرا مجيدا، ولم يكن يعني بالعروض، روي عنه أنه كان إذا نظم قصيدة يسأل الحاضرين في أي بحر هي.

ويبدو أن الشعر ذا الأغراض الدينية (مديح، دعاء، توسل، وعظ…) كان أسبق إلى الظهور، فكان في تمبكتو وولاتة وتشيت وغيرها شعراء مقلون ينظمون الشعر ويتأثمون من الاكثار منه أو من تسخيره لأغراض وجدانية غير دينية، وتجد في كتاب «فتح الشكور» نماذج من هذا الشعر تعود الى القرن العاشر وما دونه. وبهذا النمط من الشعر تميزت مدرسة ولاتة، ولكنه كان النمط السائد في كل الحواضر بما فيها شنقيط الى حد ظهور سيدي عبد الله بن محمد الذي طرق الغزل وأبدع فيه وفي غيره من الأغراض:

لقد أحيا ومعاصروه تقليد المقدمة الغزلية حتى سار متصوفة الشعراء على نهجهم، وكانوا يعللون مسلكهم هذا بأثر منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم «لا تمدحوني بخصي شعركم».

لقد ضرب الشعراء الشناقطة منذ عهد سيدي عبد الله في أوداء الحياة، على أن نفرا منهم ظلوا أوفياء لميثاق الحواضر وعهد ناصر الدين، لا يحيدون عن الغرض الديني في شعرهم، فهذا بدى (محمدي) بن سيدينا، يقول عنه صاحب الوسيط: «لولا دفاعه عن الصوفية لم ينظم بيتًا واحدا»

وقد نظم الشناقطة في بحور الشعر العربي كلها أو جلها، وتفننوا في زخرفه وبهرجه.
فكتبوا القصائد كلها حروف مقطعة، والقصائد تقرأ في البحرين الى جل البحور أو كلها وكان ذلك لهم أحيانا مجال منافسة كما حدث في مساجلة مديحية المضمون والمقصود بها التعجيز جرت بين بعض الشعراء.

مختار ب بن المعلى نظم قصيدة تقرأ في ثلاثة بحور، فأجابها ابد (الكبير) ابن سيدي أحمد بقصيدة نسجت من عشرة بحور، فرد ابن المعلى بأربعة أبيات في كل البحور أو جلها فكتب ابد بيتين في كل البحور.

الشيخ سيدي الكبير كتب قصيدة تقرأ في ثلاثة بحور: الكامل، المديد، البسيط يمدح بها الشيخ سيدي المختار الكنتي، وكتب ابن حنبل في الشيخ سيديا قصيدة مماثلة سماها “الزرقاء”.

وكان القوم أهل ذوق في الأدب يعتامون أطاييبه ويكثرون من حفظ ذخائره، وربما طمح أحدهم بطرفة الى ما أبدعه غيره، لا سرقة أو اختلاسا، ولكن إعجابا وغيرة في غير حسد ولا غل، فقد أعجب ابن الطلبة بقصيدة حميد بن ثور الهلالي:

أَلا هيّما مِمّا لَقيتُ وَهيّما
وَويحاً لِمَن لَم أَلقَ مِنهُن وَيحَما

وأعجبته جيمية الشماخ بن ضرار:

أَلا نادِيا أَظعانَ لَيلى تُعَرِّجِ
فَقَد هِجنَ شَوقاً لَيتَهُ لَم يُهَيَّجِ

ولعل لامية أعشى قيس (ميمون بن قيس) قد راقته:

ما بُكاءُ الكَبيرِ بِالأَطلالِ
وَسُؤالي فَهَل تَرُدُّ سُؤالي

فنظم معارضاته الشهيرة للقصائد الثلاث.

الميمية:

تأوَّبَهُ طيفُ الخيالِ بمَريما
فباتَ مُعَنّىً مستهاما مُتَيّما

الجيمية:

تطاول ليل النازح المتهيج
أما لضياء ‏الصبح من متبلج

اللامية :

صاحِ قِف واستَلِح على صحنِ جالِ
سبخَةِ النيشِ: هل ترى من جمالِ؟

وقد أرجأ ابن الطلبة فرز هذه المسابقة وأوكل حكومتها الى أهل الجنة، فتمنى أن يجتمع والشماخ بن ضرار وحميد بن ثور في ملإٍ من أهل الجنة وينشدوا قصائدهم ليحكم بينهم هؤلاء، وكأن ابن الطلبة، وهو المعجب بهذين الشاعرين، المعتد بنفسه الواثق بأدبه لم يرض حكما من أهل الدنيا للفصل في مسابقة بين الفحول، لكن محمد يوسف مقلد تعجل الحكم الذي أجله ابن الطلبة فحكم على الشاعر الشنقيطي حكما لا يحط من مرتبته، وقد بدأ الأستاذ أحمد ابن الحسن يتعقب الحكم بانكبابه على دراسة شعر محمد ابن الطلبة كظاهرة متميزة في الأدب الشنقيطي خاصة والعربي عامة.

أما أحمد بن الأمين، فقد حكم حكما نصفا في المعارضة الثالثة فقال إن قصيدة ابن الطلبة لا تقصر عن قصيدة الأعشى التي عدها محمد بن الخطاب في المعلقات، وأورد القصائد الثلاث للمقارنة» وقال إن جودة شعره وكونه لا يقل عن شعر العرب العرباء محسوسة لا تحتاج إلى تصديق فلان وفلان، ولقبه بنابغة شنقيطا وأعطاه أكبر نصيب في ديوان الشعر الشنقيطي. ومن قبل أخذ سيدي عبد الله بن محمد برونق الأدب الأندلسي وجاذبيته، فلم يخف تأثرهِ به واعتداده، فقدم رائعته الدالية في مديح صديقه محمد بن المولى اسماعيل سلطان المغرب، وقال إنها:

عروب عروس الزي أندلسية
من الأدب الغض الذي روضه ندى

واطلع على قصيدة علي بن أحمد الشامي المغربي في المديح النبوي، ومطلعها:

دعوا شفة المشتاق من سقمها تشفى
وترشف من أسآر ترب الهدى رشفا

فعارضها في تواضع، ولكن في روعة واقتدار بقصيدة مطلعها:

غَرامٌ سَقى قَلبي مُدامَتَهُ صِرفا
وَلمّا يُقم لِلعَذلِ عَدلاً وَلا صَرفا
قَضى فيهِ قاضي الحُبِّ بِالهَجرِ مُذ غَدا
مَريضاً بِداءٍ لا يُطَبُّ وَلا يُشفى

وقد أبدع في القصيدة إبداع الشعراء ثم تواضع فيها تواضع العلماء فوفى سلفه حقه من التقدير:

قَفَوتُ بِها الشامِيَّ في الفاءِ موقِناً
بِأَنّي وانٍ دونَ إِدراكِهِ ضُعفا

وعارض ابن حنبل بمقصورته:

أشاقتك بعد تولي الصبا
حمول بكرن بأدم الظبا

مقصورة أبي صفوان الأسدي:

نأت دار ليلى فشط المزار
فعيناك ما تطمعان الكرى

ويرى الأستاذ سيدي أحمد بن الدي أن ظهور كتاب الوسيط في مصر ابتداء من سنة 1911‏، وفيه كل هذه المعارضات، قد يكون أوحى الى أحمد شوقي، وهو يومئذ في عز دولته الأدبية بمعارضاته للبوصيري في همزيته وميميته.

وربما راقت للشاعر أبيات فتمنى لو كان قائلها، وقد اتفق للعم بن أحمد فال أنه أنشد بيتين لنفسه، فبلغه أن أحد الأدباء ادعى أنه اشتراهما منه بثمانية أبيات، فأثار ذلك حفيظة العم وأنشد قصيدته:

أخيرا هاجك البرق اليماني
وتذكار المعاهد والمغاني
وفيها يقول :
فبينا ننشد الأشعار قصرا
ونأخذ في المقايس والمباني
وننحو النحو والتصريف طورا
وأطوار نميل الى البيان
إذا بفتى يقول شرى فلان
بذي الأبيات ذينك من فلان
… أليس الشعر طوع يدي وقلبي
وسهل الصوغ ويك على لساني؟؟
أصوغ البيت منه بلا عروض
على أقوى وأقوم في اتزان
وأنفى اللحن والتعقيد عنه
بذوقي والقريحة والجنان
وأرتقب المحاسن من بعيد
وأقتنص الشرود من المعاني
فأكسو اللفظ بالأفكار حليا
يذم له الثمين من الجمان

ولقد كان الشناقطة أكثر اهتماما، ببعث القديم التليد منهم بالبحث عن الطريف الجديد، وذلك مبدأ النهضة الحديثة، فهي إحياء وبعث قبل أن تكون ابتكارا وابداعا من غير احتذاء، على أن الشناقطة عاشوا هاجس التجديد وقدموا مساهمتهم في إغناء العروض العربي فاستدركوا عليه.

أما الدعوة للتجديد والشكوى من الاجترار والتقليد، فقد برزت جلية واضحة في قصيدة مطولة للشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا يصور فيها أزمة الشعر والشاعر:

يا معشر البلغاء هل من لوذعي
يهدى حجاه لمقصد لم يبدع
إني هممت بأن أقول قصيدة
بكرا فأعياني وجود المطلع
لكم اليد الطولى علي إن أنتم
ألفيتموه ببقعة أو موضع
فاستعملوا النظر السديد ومن يجد
لي ما أحاول منكم فليصدع
وحذار من خلع العذار على الديا
ر ووقفة الزوار بين الأربع
وإفاضة العبرات في عرصاتها
وتردد الزفرات بين الأضلع
وتذاكر السمار بالأخبار من
أعصار دولة قيصر وتبع
والقينة الشنبا تجاذب مزهرا
والقهوة الصهبا بكأس مترع
وتدافع الأبطال في رهج القتا
ل إلى النزال بكل لدن مشرع
فجميع هذا قد تداوله الورى
حتى غدا ما فيه موضع أصبع
والشعر - كما يقول المدعى -
صعب المقادة مستدق المهيع
كم عز من قح بليغ قبلنا
أو من أديب حافظ كالأصمعي
هل غادرت (هل غادر الشعراء) في
بحر القصيد لطامع من مطمع
والحول يمكثه زهير حجة
أن القوافي لسن طوع الإمع
إن القريض مزلة من رامها
فهو المكلف جمع ما لم يجمع
إن يتبع القدما أعاد حديثهم
بعد الفشو وضل إن لم يتبع

وأما إثراء العروض العربي، فقد حدث من قبل مع محمد سعيد اليدالي الذي نظم موشحة مرقصة في المديح النبوي في بحر جديد، وقال في شرحها أن وزنها «ليس من الأوزان الستة عشر بزيادة المتدارك، إلا أن أشبه البحور بها مخلع البسيط، والمتزنة به من أجزاء التفعيل (مستفعلات) وليس من أجزاء تفعيل الشعر المعروفة، وقد يدخله الخبن وهو حذف الثاني فينقل إلى (مفاعلات) وهو حسن لأنه أخف، ويدخله أيضا الطي وهو حذف الرابع فينتقل الى (مفتعلاتن)».‏

والقصيدة ذات إيقاع موسيقي منتظم جميل، يدرك ذلك كل من يملك الأذن الموسيقية وقد نظمها الشاعر بميزان بحور الشعر الشعبي الحساني التي تقوم على حساب المتحركات. وقوام هذا البحر خمسة متحركات للشطر.

وقد عني أحمد بن الأمين الشنقيطي نزيل القاهرة بتدوين أدب قومه، فألف فيه كتابه «الوسيط في تراجم أدباء شنقيط» وضمنه قصائد ومقطعات لاثنين وثمانين شاعرا من أبرز شعراء البلاد خلال قرنين من الزمن، أورد لهم نحو4500 ‏ بيت.

وجاء محمد يوسف مقلد فأخذ من «الوسيط» بعض ما ورد فيه، وأضاف إليه قصائد ومقطعات لخمسة وعشرين شاعرا وارتفع ديوان الشعر الشنقيطي المنشور بصدور كتاب «شعراء موريتانيا» لمقلد الى نحو ‎6000‏ بيت.

ثم جاء الدكتور محمد المختار بن أباه، فأورد في كتابه «الشعر والشعراء في موريتانيا» نحو ‎6000‏ بيت لم ترد في الوسيط موزعة بين 94 شاعرا منهم 53 لم يذكرهم صاحب الوسيط.‏

ووطأً لهذه المدونة بمقدمة تاريخية وتحليلية هي أهم ما نشر في هذا المضمار لحد الآن. وقد عكف الأستاذ أحمد ابن الحسن، في عمل جامعي جليل على وصف الأساليب في الشعر الشنقيطي، مسجلا خطوة جادة على طريق دراسة هذا الأدب وتحليله، بعد أن كان جهد الباحثين منصبا على تدوينه وتوثيقه.

لم يتردد الذين اطلعوا على الأدب الشنقيطي في التسليم بأن البلاد شهدت نهضة ثقافية، أدبية كبيرة، منذ القرن الثاني عشر الهجري خاصة.

وقد حطمت هذه النهضة لمن شهد آثارها، التصنيف التقليدي لعهود الانحطاط في الأدب العربي، وأثبتت أن الشناقطة حملوا لواء التجديد قبل أن تقدم مصر رجالا أجلاء مثل البارودي، وأحمد شوقي.

وفي ذلك يقول عبد اللطيف الدليشي الخالدي أن من الشناقطة : «شعراء فحول لا يقلون مستوى عن أمثال المتنبي والبحتري وشوقي والرصافي».

وهو يعجب «لكثرة ما يجد الباحث من الأعداد المتزايدة من هؤلاء الشعراء الفحول المجيدين العريقين في الجزالة اللغوية والصور الشعرية الجميلة الرائعة المبتكرة في شتى الأغراض» ويستغرب «رقة أذواق وعواطف هؤلاء الشعراء العلماء الصوفية المتدينين وهم يحلقون في وصف الخصور والنحور والمطل والوصال والقدود المائسة والعيون الناعسة والأرداف الثقيلة والخصور النحيلة».

ويقول طه الحاجري:

«إن الصورة التي أتيح لنا أن نراها لشنقيط في هذين القرنين جديرة أن تعدل الحكم الذي اتفق مؤرخو الأدب العربي على اطلاقه على الأدب العربي عامة في هذه الفترة (التي يغطيها كتاب الوسيط) فهو عندهم وكما تقضي آثاره التي بين أيديهم أدب يمثل الضعف والركاكة والفسولة في صياغته وصوره ومعانيه، إذ كانت هذه الصورة تمثل لنا الأدب في وضع مختلف يأبى هذا الحكم أشد الإباء، فهو في جملته أدب بعيد عن التهافت والفسولة»

وقد استطرد الأستاذ أحمد ابن الحسن وجهة نظر الحاجري ودعمها بالأدلة، وذكر بمعطيات تاريخية دقيقة، فابن الطلبة اليعقوبي محيي الشعر الجاهلي قد ولد سنة 1774 أي قبل البارودي بأربع وستين سنة، وتوفي سنة 1856، والبارودي ابن ثمان عشرة سنة وذلك قبل ميلاد أحمد شوقي بثلاث عشرة سنة. وابن الشيخ سيديا، وقد طرح في عينيته التي عرضنا لها آنفا اشكالية التجديد والتقليد - توفي سنة ميلاد أحمد شوقي (1869).

وقبل هؤلاء جميعا، نذكر بريادة سيدي عبد الله بن محمد (ابن رازكة) محيي الشعر الأندلسي - وما هو بشعر انحطاط ‏- الذي توفى 1144ه /‏ 1731‏م، أي قبل ميلاد البارودي بقرن وزيادة ‎(107 سنوات).

واذ أوضحنا ذلك، فلا ضير أن نخلص مع الأستاذ أحمد ابن الحسن الى أن «الأحكام المتداولة في تاريخ الأدب العربي قائمة على تدوين ناقص ينطلق من المركز ويتجاهل الاطراف»، ويتساءل زميلنا : «هل يؤدي بنا هذا الى القول أن النهضة الحديثة في الأدب العربي بدأت في بلاد شنقيط ولكنها كانت ضحية مؤامرة صمت؟».

ذلك تساؤل وارد، ولكننا نميل الى انصاف الباحثين ومؤرخي الأدب، فهم معذورون ولو بالجهل «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» لنقص اطلاع كثير منهم على أدب الأطراف. وتلك- فيما يعنينا الآن - مسؤولية مشتركة، لم تتهيأ للشناقطة بعد، الفرص الكافية للنهوض بقسطهم منها.

أما مؤرخو الأدب العربي ودارسوه في المركز فهم مدعوون الى توسيع دائرة اطلاعهم ما أمكن، وإلى أن يضعوا نصب العين قومية التراث العربي الذي أطلقته اللغة العربية خاصة منذ ظهور الإسلام، من أسار الحدود والحواجز الجغرافية، فالثقافة العربية وطن واحد بلا حدود، والإبداع يذرع أرجاء هذا الوطن فلا يغترب…

وقد تتبع محمد المختار ابن اباه رحلة الابداع هذه في حضارة الأدب العربي فاذا هي قد «نشأت وتفجرت في قلب الجزيرة قبيل ظهور الاسلام وبعده، وتفتقت أزهارها في العراق والشام، كان ذلك في القرن الرابع والخامس، وازدهرت في السابع والثامن في مصر وافريقية والاندلس، واحتضنها المغرب الاقصى في القرنين التاسع والعاشر، وقبل أن تعود الى المشرق من جديد فإن صحراء شنقيط من منحنى النيجر إلى ضفاف الأطلسي قد حملت لواءها وأعادت لها نضرة الشعر الجاهلي ومتانة أسلوبه، وزخرفة الآداب العباسية ومالها من حسن البيان وغذتها بقيمها الروحية فانصهرت عناصرها في أدب متكامل وغني، يظلمه أبناؤه من موريتانيا إذا لم يجتهدوا في التعريف به ويظلمه العرب إذا أعرضوا عن التعرف عليه»

ونجد مثل هذه الدعوة للعناية بالأدب الشنقيطي عند الأستاذ عبد اللطيف الدليشي الخالدي الذي يدعو الى إدخال الأدب الشنقيطي في برامج الدراسة في المدارس العربية والإسلامية.


اقرأ أيضاً

قراءة في رواية الحدقي
24 نونبر 2021
جميع حقوق التأليف والنشر محفوظة لأصحابها © 2024

رسالة الموقعمن نحنمواضيعالمعرض