لو كانت وقائع الحروب الطاحنة، ولكن الصامتة، التي تخوضها الأمم فيما بينها عبر لغاتها، تدرك من خلال بلاغات تصدرها الأطراف المتحاربة، لكنا نسمع في كل لحظة أخبارا مذهلة عن الهزائم والانكسارات التي منيت بها هذه الأمة أو تلك، أو معلومات عن الانتصارات والمكاسب التي تحققت لغيرها. لكننا، لحسن حظنا أو لسوئه، لا نسمع إلا أصداء ضعيفة عن هذه المواجهة الضخمة الدائرة فوق مسرح مساحته الأرض كلها، والفضاء المحيط.
إنها أقدم حرب في العالم وأخطرها على الإطلاق، لكون الأسلحة المستخدمة فيها تؤدي مفعولها: اكتساح الثقافات، ومحو الهويات القومية دون أن يرف جفن للجماعات المعنية بالأمر. خطورة هذه الحرب آتية من أنها تجري أمامنا دون أن نراها، وتسقط فيها المواقع والإرادات من غير ضجيج أو أثر ملموس، وتتحول فيها أجيال بكاملها إلى الصف الآخر من دون أن تثير همة التصدي والمقاومة.
كل اللغات الكبرى، ومن ضمنها العربية، تخوض اليوم هذه الحرب غير المعلنة:
معركة اللغة العربية اليوم تدور أساسا مع الفرنسية في الشمال الإفريقي. إنها حرب المتنبي ضد فولتير.
برغم كل الجهود التي بذلتها الحكومات في الدول الأربع (تونس، الجزائر، المغرب، وموريتانيا) منذ الاستقلال لتعريب التعليم الابتدائي والثانوي، بل وحتى بعض المجالات في التعليم العالي، فإن العربية لم تصل بعد إلى نقطة اللاعودة في صراعها مع الفرنسية.
خلال فترة الاستقلالات، حققت اللغة الفرنسية توسعًا وازدهارًا لم تحققه خلال فترات الاستعمار.
وفقًا لغابريال دوبروغلي، الرئيس السابق للجنة العليا للغة الفرنسية، يشير في كتابه “الفرنسية، من أجل أن تحيا”:
“من اليوم وحتى سنة 2000، سوف ينمو عدد الناطقين بالفرنسية بمعدل 267% في إفريقيا السوداء، وبمعدل 160% في بلاد المغرب. هذا الانفجار يعود إلى الديمغرافيا والتقدم في التمدرس. وفي عام 1980، كان الفرنسيون يمثلون 52% من الناطقين بالفرنسية، أما في سنة 2000 فإن الأفارقة سوف يحتلون هذه المكانة، لينخفض عدد الفرنسيين إلى نسبة 34%. إنه انقلاب جذري… ويكفي أن نتصور أن عدد الناطقين بالفرنسية في القارة الإفريقية يمكن أن يصل إلى 250 مليون، وأن ثلثي النشاط الثقافي سوف يأتيان من العالم الثالث…”
يشير غابريال دوبروغلي إلى أن الفرنسية، رغم تقدمها في العالم العربي، تتراجع على مستوى البحث العلمي أمام الإنجليزية. ومنذ خمسينيات القرن العشرين، بدأت المجلات العلمية الفرنسية تفقد سمعتها أمام منافساتها الأمريكية، حتى وصل الأمر إلى تشجيع الباحثين الفرنسيين على نشر أعمالهم بالإنجليزية.
من الباحثين الذين يكتبون بالفرنسية، 80% ينشرون أبحاثهم بلغة شكسبير، ونصف المراجع في كلية “أورساي” للعلوم إنجليزية.
كما أن 15 ألف مطبوعة ودورية علمية لدى دائرة الوثائق العلمية والتقنية في المركز القومي للبحوث العلمية بفرنسا، لا تتجاوز نسبة الفرنسية فيها 6-7%. الجامعات والمؤسسات البحثية الفرنسية، باتت تعقد مؤتمرات تُقدّم فيها الأوراق العلمية بالإنجليزية، حتى من قبل الباحثين الفرنسيين.
النقاش حول جدوى اللغة العلمية لا يقتصر على العربية. ففي فرنسا، رغم التراجع، لم يصل الباحثون الفرنسيون إلى مرحلة التشكيك في قيمة لغتهم. الفرنسيون يستخدمون الإنجليزية في البحث العلمي، ليس لعدم كفاءة الفرنسية، بل لرغبتهم في توسيع إشعاع بلدهم وكسب أسواق جديدة.
بعض الباحثين الفرنسيين ينشرون أعمالهم بالإنجليزية للحصول على المصداقية، مثل الباحث الذي نشر دراسة علمية ضمنها أخطاء مقصودة ثم فضحها، مما أسفر عن شهرته في فهرس المصادر الأمريكية.
في فرنسا، نجد اليمين واليسار متفقين على تعزيز الفرنسية في البحث العلمي.
في المغرب العربي، بينما تبذل الدول الغربية جهودًا لحماية لغاتها، ترتفع أصوات تدعو إلى إدخال البربرية إلى التعليم، وإحلال اللهجات الدارجة مكان الفصحى.