في خضم التجاذبات الحضارية والسياسية، وفي غمرة التغييب الذي تمارسه الكيانات القوية الغالبة على الكيانات الضعيفة المغلوبة، يقوم جدل واسع ومتواصل حول كثير من المفاهيم التي يفسرها كل طرف بما يحلو له مما يتناسب مع تحقيق مصالحه.
وفي غمرة تجاذب المصالح وتدافعها، تغيب الحقيقة أو تغيب، ويعسر على غير المتخصص المتجرد معرفة الصواب واستجلاء الصورة الناصعة، بعيدا عن تشويه الصورة بريشة رسام الكاريكاتور أو تزيينها وتمويهها برتوش ومساحيق التجميل.
الجهاد في سبيل الله أمان للمستضعفين، وإنصاف للمظلومين ويجب المحافظة على نصاعة صورته ابتداء عند إعلانه وأثناء ممارسته الميدانية.
ومن أكثر الحقائق عرضة لهذا التغييب رغم حضورها الواقعي القسري حقيقة الجهاد في سبيل الله. ولا أعلم أن مفهوما من المفاهيم نال من الظلم والهضم ما ناله هذا المفهوم. بل إن تشويه هذا المفهوم زاد على سواه بكونه لم يقتصر على جهود أعدائه، بل ساعدهم عليه جهل وغلو بعض أصدقائه وأوليائه؛ فضربوا في تشويه صورته وتلطيخ غرته ما لم يبلغه الأعداء بمكرهم الذي تزول منه الجبال.
فكم سُفِكَ من دماءٍ معصومةٍ باسم جِهادِ أعداء الدين؟!! وكم هُتك من أعراضٍ مصونةٍ باسم الانتِصاف للمستضعفينَ؟!
وممَّا زادَ الطين بلَّةً أن كثيرًا من القُوَى الكبرى وأصحابِ المصالحِ العُليا؛ رأوا أن من مصلحتهم تطويل مدةِ هذه الفتنة العمياءَ ومَدِّهم بمزيد من ذرائع البقاء، ليزداد المقسم تقسيمان و تزداد الأمة تشرذما وضعفا.
وليكون أولئك الأغرار وقود تلك المعارك التي لم يستوعبوا كثيرا من دوافعها، ولم يتفطَّنوا لكثير من وسائلها، ويمدهم ضعف تجربتهم وشراسة عدوهم بابتكار وسائل جديدة للدمار المادي والمعنوي؛ يجففون من خلالها الصُّبابة المتبقية من تلك المجتمعات، ويفككون ما بقي من وشائج القربى والرحم والدين.
وفي هذا الإطار تأتي هذه الورقة “مظاهر الغلو في خطاب وممارسة جماعات العنف” محاولة لرد المياه إلى مجاريها من خلال عرضها لمظاهر وتجليات الاختلال الحاصل لجماعات الغلو (1) على المستويين النظري والعملي مع بيان الوجه المقابل لذلك الغلو الذي تعبر عنه وسطية الشريعة وسماحتها وعدلها.
ويكون ذلك من خلال تمهيد يعرض فيه دوافع معالجة هذا الموضوع. ومبحثين يعرض الأول منهما مظاهر الغلو في خطاب وممارسة جماعات الغلو. ويعرض المبحث الثاني الحجج الشرعية المجرمة لممارسات الغلو، ونختم بخاتمة فيها أهم النتائج التي توصلت لها الورقة.
الغلو: (الارتفاع في الشيء ومجاوزة الحد فيه، ومنه قوله جل وعز: {لا تغلوا في دينكم} (2)، أي لا تجاوزوا المقدار). (3)
(ومنه اشتقاق الشيء الغالي؛ لأنه قد ارتفع عن حدود الثمن). (4)
ولا يبعد المعنى الاصطلاحي المراد في هذه الورقة عن المعنى اللغوي، بل لا يخرج عنه قيد أنملة، فإن المقصود بالغلو: هو مجاوزة الحد الشرعي في الإقدام على القتال في سبيل الله أصلا، أو مجاوزة الحدِّ الشرعي –كذلك- أثناء ممارسة القتال بعد الإقدام عليه.
وههنا لا بد من التنبيه إلى أنني لا أعني بوصف الغلو المجاهدين الذين يدافعون عن أوطانهم المحتلة بما تيسر لهم من وسائل-وإن كنت لا أبرئ هؤلاء أيضا من أن يشوب جهادهم في بعض الأحيان شيء من الغلو أثناء الممارسة الميدانية.
إنما أعني غلو الجماعات التي لم تصدر في قرار قتالها عن إجماع من الأمة، ولا عن رأي من جماهير علمائها وخبرائها، تلك المجموعات المعزولة عن مجتمعاتها ممن يقودهم المجاهيل وتَتَصدر فيهم النكرات، وتشيع على أيديهم المنكرات، من سفك الدماء وهتك الأعراض والأخذ بالريبة.
الغلو في الأساس حالة نفسية متجذرة في بعض النفوس بطبعها وقابليتها، إلا أنها تتجلى وتتمظهر في مجموعة من المفاهيم والتصورات، يعبر عنها الغالي على شكل خطاب يشكل الخطوط العريضة لفكره ورؤيته، أو يمارسها من خلال حركته الواقعية متفاعلا مع شؤون الحياة اليومية.
فلذلك يمكن أن نقسم مظاهر الغلو إلى قسمين: مظاهر فكرية، ومظاهر عملية.
ما من موقف عملي لإنسان إلا وهو مسبوق برؤية فكرية تمليه ابتداء، وتمده بمبررات البقاء، وليس غلو بعض المنتسبين للإسلام باستثناء من هذه القاعدة، بل إننا نلمس هذه الحقيقة في الحركة الاسلامية بشكل أوضح؛ لأن مدار صراعها مع خصومها داخليا وخارجيا على قضايا فكرية ودينية؛ قبل أن يكون صراعا على المصالح المادية.
ويمكن إيجاز أهم مظاهر هذا الغلو فيما يلي:
أ- الغلو في باب “الأسماء والأحكام”
ويتجلى ذلك في تكفير جمهور المخالفين حتى إن هذا التكفير تتسع دائرته عند الغلاة لتشمل بعض المتدينين من المسلمين بل تتعداه إلى بعض الخاصة ممن يصنف في الدائرة الضيقة قريبا في الفكر والطرح من هؤلاء الغلاة.
ومن أمثلة ذلك تكفير بعض المنظرين لهذه الجماعات لجميع الجنود والعساكر في جيوش جميع الدول الإسلامية وتسميتهم جنود الطواغيت وإلحاقهم بجنود فرعون بجامع أن كلا منهما سند لظالم كافر؛ لا يقوم ركنه إلا به، مستدلين بقوله تعالى: { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ}. (5)
ب- اختلال ميزان الأعمال
فنرى تضخيما لبعض الجزئيات كالتكفير بفروع العقيدة بل ربما التكفير بأمور عملية (المشاركة الديمقراطية) وتقزيما لبعض الكليات كوحدة الأمة والحفاظ على أمنها القومي.
ج- الشطط في تصور وتمثل مفهومي الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين
حيث يتم اختزال المؤمنين في جماعة أو طائفة محدودة في الزمان والمكان والعدد تنزل عليهم النصوص الواردة في المؤمنين وينزل على من خالفهم نصوص البراءة الواردة في الكافرين.
د- توسيع دائرة التعبدي وتضييق دائرة معقول المعنى
وينجم عن ذلك الحكم على كثير من الأمور الداخلة في منطقة العفو والإباحة بكونها بدعا محرمة في الوقت الذي يمكن تصنيفها استنادا للفقه الاسلامي إلى مصالح مرسلة يجوز تعاطيها بل يحسن استخدامها.
أ- إعلان الخلافة العامة على المسلمين وترتيب وجوب البيعة والنصرة بالنفس والمال
على جميع أقطار المسلمين مهما بعدت أوطانهم وتعقدت واشتبكت أزماتهم الداخلية والخارجية. وقد ضرب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) أوضح مثال على هذا الغلو عندما أعلن على لسان الناطق الرسمي له (7) بأن “أي فصيل يقاتل الدولة الإسلامية يقع في الكفر من حيث يدري أو لا يدري”، فجعل من قتال الدولة الإسلامية مناطا للكفر.
ب- ترتيب أثر الردة من استباحة الدم والعرض والمال
على جمهور المسلمين بل على خاصتهم من العلماء وطلبة العلم، بل على كثير من الجماعات الإسلامية الداعية إلى الله الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر المقارعة لأعداء الله ورسوله في شتى الجبهات والأصعدة. ويشمل هذا الأثر وجوب قتال فئام من العاملين للإسلام المدافعين عنه تحت طائلة تكفيرهم وباعتبار أنهم العدو الأقرب والله تعالى يقول: {قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. (8)
ج- إعلان القتال على جميع (الكفار) في وقت واحد
دون مراعاة لمقتضى ما تمليه السياسة الشرعية من تأجيل للصراع واستغلال فترات الهدنة مع طرف لمواجهة آخر، والأدهى والأمر أن نصيب المسلمين الذين يحكم عليهم بالردة من هذا القتال أكبر، وأولويتهم آكد باعتبار أنهم العدو الأقرب والأخطر.
د- تعليق استباحة القتل بمطلق الكفر دون مراعاة للمقاتلة والحرابة.
هـ- تجاهل العوارض التي تعرض أثناء قتال الحربيين
مما يشكل استثناء في حربهم كعوارض العهد والهدنة والأمان وما شابه ذلك، واستباحة قتل الداخلين للبلاد الإسلامية بتأشيرة زيارة أو المقيمين فيها من غير المسلمين. والنزوع إلى الشدة والغلظة في مواطن وسع فيها الشرع وجعل فيها خيارات متباينة منها الشديد ومنها اللين (التعزير بالقتل نموذجا).
ز- التوسع في المعاملة بالمثل دون مراعاة للضوابط الشرعية
مثل التمثيل بالجثث وسحلها وقتل المقدور عليه بواسطة الإحراق وما شابهه، مع أن الله كتب الإحسان في كل شيء حتى في طريقة القتل.
ح- تنزيل الأحكام الفقهية المقررة عند بعض الفقهاء دون مراعاة للفروق الجوهرية
بين واقع الدولة الإسلا مية الواحدة (الخلافة) وبين الدويلات الإسلامية القطرية من جهة، ودون التفريق بين فقه الاستضعاف الذي يخضع لأحكام الضرورة الجالبة للترخص، وفقه التمكين القائم على الحزم الجالب للعزم.
فلأجل ذلك ذهب جماهير أهل العلم ومنهم المالكية والحنفية والحنابلة وبعض الشافعية إلى أن العلة في قتال الكفار الذي تواترت فيه الآيات والأحاديث ليست هي مجرد كونهم كفارا بل هناك أمر زائد على الكفر هو المناط الحقيقي للقتال وهو “الحرابة”.
قدمنا في المبحث الأول الخطوط العريضة لمظاهر الغلو في المجالين النظري والعملي ونهتم في هذا المبحث بالتعرض لأهم الشبهات وتفكيك أهم المرتكزات التي ارتكزت عليها تلك الممارسات العملية، معرضين عن التفصيل في الجوانب النظرية اتكالا على تخصيص ورقات أخرى لمواجهتها، فنقول:
إن من أعظم الغلو في الواقع المعاصر ما نشهده من إعلان فصيل واحد من المسلمين الخلافة الإسلامية الجامعة لمجرد تحريره المؤقت لمساحة من الأرض محدودة وإخضاعه لها بقوة السلاح.
وإنما اعتبرناه غلوا لأن فيه زيادة على الحد الشرعي المتصور في مثل هذه الحالة، فغاية ما يمكن أن يوصف به كيان محدود في مساحته وأفراده وإمكاناته أن يسمى إمارة وأن تجرى أحكامه وتلزم طاعته رعايا ذلك النطاق، أما أن يعمم حكم الطاعة والتبعية على جميع بلاد الإسلام، ويوصف جمهور المسلمين بالقعود والتقاعس عن الجهاد، ويرتب على ذلك أن قعودهم تلزم منه نصرة الأعداء بالضرورة، فهذا تج اوز مفرط للحدود، وتعد جانح للمقاييس.
والواقع أن انتحال هذا النوع من التصورات المغرقة في الحُلُمية لا يصدر إلا من صغار العقول الأغرار ممن لم يقرؤوا التاريخ لأخذ العبر، ولم يتفقهوا في الدين فيتبعوا الأثر، وإلا فإن كل عاقل يفهم بعقله -غيرِ المعطل- أن مقومات الدولة -التي تسمى بها دولة- أبعدُ غورا من ذلك التسطيح، وأكثر تعقيدا من ذلك التبسيط.
فلأجل ذلك ذهب جماهير أهل العلم ومنهم المالكية والحنفية والحنابلة وبعض الشافعية إلى أن العلة في قتال الكفار الذي تواترت فيه الآيات والأحاديث ليست هي مجرد كونهم كفارا بل هناك أمر زائد على الكفر هو المناط الحقيقي للقتال وهو “الحرابة”.
ولا شك أن قيام الخلافة الإسلامية -التي تنعم فيها بلاد الإسلام بالتوحد تحت قيادة سياسية واحدة- فريضةٌ شرعيَّةٌ وضرورة واقعيَّةٌ، إلا أن ذلك حلم يصعب تحقيقه في ظل الضعف والتمزق المستشري في جميع البلدان الإسلامية. ومن المعلوم أن التكاليف الشرعية كلها مربوطة بالاستطاعة والقدرة، كما قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (9)، {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} (10)، وكما قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: “وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم” (11).
والشريعة الإسلامية المنزلة من عالم الغيب والشهادة تر اعي هذا المعنى لواقعيَّتها؛ فلا تجافي سنن الله الكونية؛ ومنها سنة التدرج، فإذا عجز المسلمون عن إقامة دولة قطرية تقام فيها الشريعة الإسلامية في مجال محدود، فهم عن إقامة خلافة جامعة أعجزُ.
وبسبب ذلك فقد أفتى غير واحد من أهل العلم عملا بقاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) (12) بمشروعية قيام دولة إسلامية في قطر من أقطار المسلمين في ظل تباعد أقطارهم وتقطع روابطهم وتشتت شملهم، مع ملاحظة أنها لا تعدو أن تكون إمارة محدودة الصلاحيات في نطاق محدود، وليست خلافة جامعة تلزم طاعتها جميع الأقطار، وممن نص على هذا المعنى الإمام الشوكاني حيث قال:
“وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته، وتباعد أطرافه، فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته؛ وبايعه أهله، كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته، لتباعد الأقطار فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يدرى من قام منهم أو مات فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد… فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها”. (13)
وقد أجاز المحققون من أهل العلم من شتَّى المذاهبِ تعدُّدَ الأئمَّة إذا تعذَّر على إمامٍ واحدٍ حُكمُ كلِّ بلاد المسلمين لتباعُدها أو لغير ذلك. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق القيام بالممكن من التكاليف وترك غير الممكن:
“ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل والله أعلم.” (14)
وقد نص أهل العلم في كتب الفقه والأحكام السلطانية على أن الإمامة لا تلزم إلا بمبايعة عدد تقوم به مقاصد الإمامة من حفظ للبيضة وإقامة للعدل بين الناس جميعا، فليست الإمامة خلعة أو لقبا يخلع على أي شخص؛ فيكون به أميرا للمؤمنين، بل إن من تولى من الأمراء؛ وبويع من الخلفاء؛ لم يكن أميرا بمجرد بيعة من بايعه حتى يقره على البيعة أهل الحل و العقد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
“بل الإمامة عندهم-يعني أهل السنة- تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماما”.
ولهذا قال أئمة السلف: من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية، فهو من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فالإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكا بذلك. وهكذا كل أمر يفتقر إلى المعاونة عليه لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه؛ ولهذا لما بويع علي – رضي الله عنه – وصار معه شوكة صار إماما). (15)
وقال الإمام الجويني:
(فالوجه عندي في ذلك أن يعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع، تحصل بهم شوكة ظاهرة، ومنعة قاهرة، بحيث لو فرض ثوران خلاف، لما غلب على الظن أن يصطلم أتباع الإمام، فإذا تأكدت البيعة، وتأطدت بالشوكة والعدد والعدد، واعتضدت، وتأيدت بالمُنَّةِ، (16) واستظهرت بأسباب الاستيلاء والاستعلاء، فإذ ذاك تثبت الإمامة، وتستقر، وتتأكد الولاية وتستمر). (17)
من أنواع الغلو العملي في ممارسة الجهاد في سبيل الله إعلان القتال على جميع (الكفار) في وقت واحد، وإنما جعلناه غلوا لما فيه من الزيادة على الحد المطلوب شرعا فإن السياسة الشرعية التي انتهجها النبي صلى الله عليه وسلم في جميع مراحل جهاده للحربيين كانت تخضع لما تقتضيه المصلحة وتمليه السياسة فلم يفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم على العصبة المؤمنة معه جبهات متعددة في وقت واحد
وقال أبو يعلى الحنبلي:
(فَأَمَّا انْعِقَادُهَا باختيار أهل الحل والعقد فلا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد). (18)
وقال الخطيب الشربيني:
(واختلف في عدد المبايع “والأصح” لا يتعين عدد، بل المعتبر بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم). (19)
إعلان القتال على جميع (الكفار) في وقت واحد، وإنما جعلناه غلوا لما فيه من الزيادة على الحد المطلوب شرعا فإن السياسة الشرعية التي انتهجها النبي صلى الله عليه وسلم في جميع مراحل جهاده للحربيين كانت تخضع لما تقتضيه المصلحة وتمليه السياسة فلم يفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم على العصبة المؤمنة معه جبهات متعددة في وقت واحد بل كان يعقد الهدنة والصلح مع طرف فيحيده ليتهيأ لقتال ومواجهة طرف آخر.
ونظرة عجلى لسيرته صلى الله عليه وسلم كافية في ذلك فقد وادع يهود المدينة ووقع معهم الوثيقة الشهيرة عند مقدمه ليتفرغ لمواجهة قوافل قريش الذي أخرجوه والمهاجرين من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولكي يتسنى له تأمين طرق السرايا والبعوث من المدينة فقد وادع وصالح عامة القبائل المحيطة بالمدينة كبني مدلج وبني ضمرة وغيرهم، وعندما نقض اليهود العهد وأراد غزوهم في خيبر عقد الهدنة مع قريش في صلح الحديبة وتحالف مع خزاعة وعندما حسم المعركة لصالحه مع اليهود تفرغ لقتال قريش بعد نقضهم للصلح فأين هذا ممن يستعدي العالم أجمع بأحلافه وجيوشه وترسانته على المسلمين جميعا وهم في أضعف أحوالهم عددا وعُدة، وفي أشد أوقاتهم تمزقًا وأقلِّها وحدَة.
الإسراف في القتل دون مراعاة للضوابط الشرعية ودون توخ لتحصيل مقاصده المرعية فنجد التفجير العشوائي بوسائل يستحيل فيها التمييز بين من يجوز قتله وبين من لا يجوز قتله فتشمل تلك الأعمال الذكر والأنثى ،الصغير والكبير، المسلم والكافر دون تفريق بين من يحرم قتله ممن عصم دمه بالإيمان من المسلمين، أو بالأمان من غير المسلمين.
وكانت بعض أحكام الفقه الإسلامي متكأ لهؤلاء في مثل ذلك الخلط والتعميم كمسألة التترس والتبييت بعد رفعها من مستوى المختلف فيه إلى مستوى المجمع عليه ،وبعد تجريدها من كل الضوابط التي ضبطها بها من قال بها من فقهاء المسلمين.
وقد أساء من يسلكون هذه المسالك إلى وجه الجهاد الإسلامي الناصع أعظم إساءة ولطخوا غرته بوصمة عار وطابع شنار فشوهوا بهجته بالربط بينه وبين هذه الممارسات الغالية المفضوحة، وحتى لا يخلط بين المقاومة المشروعة والعدوان الممنوع ولئلا تشتبه الأساليب المهذبة في مواجهة الأعداء والأساليب الهمجية.
فإننا نوجز بقدر ما يسمح به المقام بيان السبب الشرعي المبيح للدماء وهو: الحرابة وأن الإسلام لم يبح من القتال إلا ما كان فيه دفع حرابة المحاربين من الكفار يستوي في ذلك الجهاد الهجومي (جهاد الطلب) والجهاد الدفاعي (جهاد الدفع) كما أن الإسلا م في سياق مواجهة العدو المحارب لا يضع الحبل للمجاهدين على الغارب، بل يضبطهم بضوابط قانونية وخلقية لا يجيز لهم الخروج عنها، فيحرم عليهم التحريق والتغريق إلا لضرورة ويحرم عليهم التمثيل بالقتلى كما يحرم عليهم الغدر بجميع أنواعه وأول ذلك الغدر بأهل الذمة أو المصالحين أو المستأمنين والنصوص في ذلك أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر.
فلأجل ذلك ذهب جماهير أهل العلم ومنهم المالكية والحنفية والحنابلة وبعض الشافعية إلى أن العلة في قتال الكفار الذي تواترت فيه الآيات والأحاديث ليست هي مجرد كونهم كفارا بل هناك أمر زائد على الكفر هو المناط الحقيقي للقتال وهو “الحرابة” (20) ومعناها عندهم أن يكون الإنسان من شأنه ومن عادته ومن طبيعته أن يستهدف الإسلام أو المسلمين بالحرب، ولو لم يشرع في ذلك بالفعل.
وقد خفي هذا المعنى على كثير من الناس ممن وقفوا عند ظواهر النصوص ولم ينفذوا على ما ذخر فيها من معاني ومقاصد، وساعدهم على ذلك ما نقل عن الشافعي وبعض أهل العلم من كون الكفر علة مبيحة فدفعهم ذلك إلى استهداف غير المسلمين دون أن يفرقوا بين رجل وامرأة، ولا بين صغير وكبير، ولا بين محارب ومسالم، فوقعوا فيما حرمه الله من الغلو والعدوان قال تعالى:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. (21)
قال ابن عباس عن هذه الآية: «لا تقتلوا النساء ولا الصِّبيان ولا الشيخ الكبير وَلا منْ ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يَده، فإن فَعلتم هذا فقد اعتديتم». (22)
وعن يحيى بن يحيى الغساني، قال: «كتبتُ إلى عمر بن عبد العزيز أسألهُ عن قوله {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، (23) قال: فكتب إليّ: إنّ ذلك في النساء والذريّة ومن لم يَنصِبْ لك الحرَب منهم.» (24)
وقال أبو بكر الجصاص معللا كلام عمر بن عبد العزيز: «كأنه ذهب إلى أن المراد به من لم يكن من أهل القتال في الأغلب لضعفه وعجزه لأن ذلك حال النساء والذرية». (25)
وعن سعيد بن عبد العزيز، قال: «كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن أرطاة: إني وَجَدتُ آية في كتاب الله {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (26) أي: لا تقاتل من لا يقاتلك، يعني: النساء والصبيان والرُّهبان». (27)
قال ابن جرير -مرجحا إحكام هذه الآية، رادا على من ادعى نسخها بآية السيف-: «وأولى هذين القولين بالصواب، القولُ الذي قاله عمر بن عبد العزيز. لأن دعوى المدَّعي نَسْخَ آية يحتمل أن تكون غيرَ منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه، تحكُّم. والتحكمُ لا يعجِز عنه أحد». (28)
وما دل عليه أثر ابن عباس، وأثر عمر بن عبد العزيز، وما رجحه إمام المفسرين ابن جرير الطبري من إحكام الآية وبُعْدها عن النسخ يدل عليه النظر أيضا، وتظاهر فيه الدرايةُ الروايةَ، فلو نظرنا إلى جميع من نهي عن قتالهم في الحديث، وفي وصايا أبي بكر، وغيره من الأمراء لقادة الجيوش، نجد أن القدر المشترك بين أولئك: هو كونهم ليس من شأنهم أن يقاتلوا مع قومهم بوجه من الوجوه، ونجد أن القدر المشترك بين من أمر بقتالهم: كونُهم من شأنهم أن يقاتلوا ولو بوجه.
ونَرَى أن الشارع أباح قتل المسلم إذا صدرت منه الحرابة مع غياب وصف الكفر، وحرم قتل بعض الكفار ممن ليست فيهم حرابة مع وجود وصف الكفر. فعِلَّة وجوب القتال إذن ليست مطلق الكفر، كما أنها ليست الكفر مع ضميمة الذكورة، -فلا تصلح الأنوثة علة للنهي عن قتل النساء لأن الجمهور على أن المرأة إذا قاتلت قُتلت، (29) هذا مع اتصافها بوصف الأنوثة الذي لا يمكنها الانفكاك عنه.
ونجد أن من بين المنهي عن قتلهم بعض الذكور مما يعني انخرام هذا الوصف طردا وعكسا فلا يصلح أن يكون علة. وكذلك وصف الكِبَر في السِّن لا يصلح علة لعصمة الدم، بسبب إجماعهم على قتل ذوي الرأي في الحرب من المسِنِّينَ كما قُتِل دريد بن الصمة في حنين وهو شيخ كبير هرم (30) ولنهيه عن قتل الصبيان (31) وقد انخرم فيهم هذا الوصف فانتقضت بذلك العلة طردا وعكسا.
قُل مثل ذلك في تعليل النهي عن قتل الصبيان بالصبا، فإن الصبي إذا كان ممن يقدر على القتال وقاتَلَ قُتل، فانخرمت العلة طردا، (32) وكبير السن الذي لا يستطيع القتال أو لا يتأتى منه عادة لا يقتل فانخرمت العلة عكسا.
وهكذا القول في الرهبان المنقطعين في الصوامع المنهي عن قتلهم فإن علة النهي ليست كونهم رهبانا فالراهب أشد كفرا ممن سواه، وإنما العلة عدم مخالطتهم لأهل ملتهم حسا وحكما، ولذلك فإنَّ من تظهر مُعاونته لأهل الحرب من الرهبان يجوز قتله، فانتقض التعليل طردا وعكسا. وقُل مثل ذلك في الأكَّارين (المزارعين) والعُسفاء (الأجراء).
فالمدار في الجميع على كونهم ليس من شأنهم نصب الحرب للمسلمين، إما لعجزهم الجِبلي عنها كما هو الشأن في الصبيان والمسنين وفي النساء غالبا أو لانصرافهم عنها طواعية وعُرفا كما هو الشأن في الرهبان والأجراء والمزارعين.
ومن هنا نقول إن ما تمارسه بعض الجماعات من استهداف المدارس والجمعيات النسوية وعمال الإغاثة ومنظمات المجتمع المدني يدخل في إطار العدوان المنهي عنه والغلو المحذر منه لأن هؤلاء قد جرى عرف الحرب في العصر الحديث ببعدهم عن ممارسة القتال مع دولهم في أحلك الظروف، فالواجب الكف عن قتالهم كما يكفون عن قتالنا، وتأمينهم كما يأمنوننا.
تجاهل العوارض التي تعرض أثناء قتال الحربيين مما يشكل استثناء في حربهم كعوارض العهد والهدنة والأمان وما شابه ذلك. فقد تواترت نصوص القرآن واستفاضت نصوص السنة على وجوب الوفاء بالعهد والميثاق وتحريم الغدر والخيانة، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ، إِنَّ اللَّـهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}، (33)
وقال جل من قائل:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّـهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّـهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا، إِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}، (34)
وقال عزّ وعلا:
{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ، إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}، (35)
وقال أيضًا:
{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، (36)
وقال تعالى:
{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، أُولَـٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}. (37)
وعملا بهذه الآيات وما في معناها وبالأحاديث المتكاثرة المحذرة من الغدر والخيانة المبينة أن سبب إدالة الأعداء على أمة الإسلام هو ضعف مراعاة العهود، اتفق علماء المسلمين على تحريم دماء الكفار الحربيين إذا دخلوا بلاد الإسلام بأمان مسلم، أو دخل المسلم إلى بلادهم بأمان، وبسبب رهافة حسهم تجاه العهود فإنهم لم يشترطوا في عقد الأمان ما يشترط في العقود عادةً، من توارد نيات العاقدين على معقود عليه واحد، بل أنفذوا عقد الأمان ورتبوا عليه أثره بكل ما يعده المُأمَّن أمانا، حتى ولو كان في نفس الأمر ليس كذلك.
قال الشافعي رحمه الله: «وإذا دخل رجل مسلم دار الحرب بأمان.. وقدر على شيء من أموالهم لم يحل له أن يأخذ منه شيئاً قلّ أو كثر؛ لأنه إذا كان منهم في أمان فهم منه في مثله، ولأنه لا يحل له في أمانهم إلا ما يحل له من أموال المسلمين، وأهل الذمة، لأن المال ممنوع بوجوه أولها إسلام صاحبه، والثاني مال من له ذمة، والثالث مال من له أمان إلى مدة أمانه وهو كأهل الذمة فيما يمنع من ماله إلى تلك المدة». (38)
وقال رحمه الله: «ولكنه ليس له أن يغتالهم في أموالهم وأنفسهم لأنهم إذا أمنوه فهم في أمان منه، ولا نعرف شيئاً يروى خلاف هذا.» (39)
وقال ابن قدامة رحمه الله: «وأما خيانتهم فمحرمة؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بتركه خيانتهم، وأمنه إياهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكوراً في اللفظ، فهو معلوم في المعنى، ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضاً لعهده.» (40)
وقال محمد بن الحسن الشيباني: «ذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «أيما رجل من العدو أشار إليه رجل بإصبعه: إنك إن جئت قتلتك، فجاءه فهو آمن فلا يقتله». (41)
وقال السرخسي معلقا عليه: «إذا أشار إليه بإشارة الأمان وليس يدري الكافر ما يقول فهو آمن. لأنه بالإشارة دعاه إلى نفسه، وإنما يدعى بمثله الآمن لا الخائف، وما تكلم به: إن جئت قتلتك، لا طريق للكافر إلى معرفته بدون الاستكشاف منه، ولا يتمكن من ذلك قبل أن يقرب منه، فلا بد من إثبات الأمان بظاهر الإشارة وإسقاط ما وراء ذلك للتحرز عن الغدر. فإن ظاهر إشارته أمان له. وقوله: إن جئت قتلتك، بمعنى النبذ لذلك الأمان. فما لم يعلم بالنبذ كان آمنا عملا بقوله تعالى: {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ}، (42) أي: سواء منكم ومنهم في العلم بالنبذ، وأشار إلى المعنى فيه فقال: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، (43) ومبنى الأمان على التوسع حتى يثبت بالمحتمل من الكلام، فكذلك يثبت بالمحتمل من الإشارة.» (44)
وقال السرخسي في موضع آخر: «لأن أمر الأمان مبني على التوسع، والتحرز عما يشبه الغدر واجب، فإذا كان معروفاً بينهم فالثابت بالعرف كالثابت بالنص، فلو لم يجعل أماناً كان غدراً، وإذا لم يكن معروفاً فقد اقترن به من دلالة الحال ما يكون مثل العرف أو أقوى منه، وهو امتثالهم أمره وما أشار عليهم به، فهو أبين الدلائل على المسالمة.» (45)
«وسُئل مالك عن الإشارة بالأمان أهي بمنزلة الكلام؟ فقال: نعم. وإني أرى أن يُتقدَّم إلى الجيوش أن لا تقتلوا أحداً أشاروا إليه بالأمان؛ لأن الإشارة عندي بمنزلة الكلام، وإنه بلغني أن عبد الله بن عباس قال: ما ختَرَ قوم بالعهد إلا سلَّط الله عليهم العدو.» (46)
قال ابن عبد البر معلقا: «إذا كان دم الحربي الكافر يحرم بالأمان فما ظنك بالمؤمن الذي يصبح ويمسي في ذمة الله كيف ترى في الغدر به والقتل؟!» (47)
وقال البغوي: «وَلَو نزل كَافِرٌ بِأَمَان صبيِّ، فَقَالَ: ظننته جَائِزا يُردُّ إِلى مأمنه، لجهله بالحكم.» (48)
ولا شك أن دخول المسلم إلى دولة من الدول أو قطر من الأقطار الكافرة لا يتم إلا بعد توقيعه على وثائق تتضمن صراحة وضمنا أن أهل البلد في مأمن من شره، وأنه ملتزم بقوانين البلد ونظمه كما أن من يدخل الأقطار الإسلامية من هؤلاء فلا بد أن يكون ذلك بدعوة من تلك الدولة أو بدعوة من بعض رعاياها، وفي الحالتين سواء كان من أعطاهم التأشيرة أو إذن الدخول له أهلية الإعطاء فالنظر في كل ذلك إنما هو إلى ما حصل في ذهن المستأمن من أمان وإلا لما دخل إلى هذا البلد. فليتق الله من يتساهل في استباحة دماء وأعراض المستأمنين وليحذر كل الحذر من الخوض في ذلك المستنقع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قتل معاهدا لم يرَح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما». (49)
من خلال تلك الجولة السريعة في مظاهر الغلو عند جماعات العنف يتبن أن هناك مستوى الغلو العملي عند هذه الجماعات يختلف من جماعة لأخرى، ويختلف مستواه في نفسه. فأشد ذلك الغلو المؤدي إلى قتل من عصم دمه بالإيمان وتزداد شناعته إن كان المستباح دمه من خاصة المسلمين، ممن انتدب للذود عن حياض الملة، والدفاع عنها من العلماء أو طلبة العلم أو المجاهدين.
ويلي ذلك الغلو بالمجازفة في اتخاذ قرار الجهاد على جميع الكفار دون تفصيل ودون تدرج، مما تنجر عنه حروب طاحنة تصلى بلادُ المسلمين لظاها وتكتوي بنارها.
ويلي ذلك الغلو باستباحة قتل من عصم دمه من الحربين بعهد أو أمان (التأشيرة، والإقامة، واللجوء السياسي وغيرها).
ويلي ذلك الغلو، باستباحة قتل من لا يجوز قتله من مدنيي المشركين الذين لم ينصبوا للمسلمين حربا.
وفي ختام هذه الورقة المختصرة لا بد من التنبيه إلى أن سبب كثير مما نشهده من تساهل في هتك الدماء والأعراض ممن عصمت دماؤهم بالإيمان أو الأمان هو شيوع الجهل في أوساط الشباب المسلم، وضعف تربيته، وشعوره بضعف الانتماء لدوله بسبب بعدها المفرط عن التشبث بأحكام دينها، وتساهلها البالغ في موالاة أعدائها وتحقيق مقاصدهم ومآربهم في البلدان الإسلامية، مع ضيق هامش الحرية عند هؤلاء في التعبير عن تلك المظالم، وعجز الأنظمة ومن ورائها المؤسسات الشرعية والدينية عن تهذيب أولئك الشباب واحتوائهم والتجافي عن مجادلتهم بالتي هي أحسن بعيدًا عن التشهير والنبز بالألقاب، هذا مع قلة الإنصاف، والامتناع عن الاعتراف لأولئك ببعض ما يحملونه من الحق، ليكون ذلك رصيدا من الثقة يبنى عليه وعربونا للحوار يقام عليه.
تعرض للقتال عوارض تجعله في دائرة الممنوع منها العهد والهدنة والأمان، ويشمل ذلك في عصرنا التأشيرة والإقامة واللجوء السياسي والاتفاقيات الإقليمية والدولية.
الجهاد في سبيل الله أمان للمستضعفين، وإنصاف للمظلومين ويجب المحافظة على نصاعة صورته ابتداء عند إعلانه وأثناء ممارسته الميدانية.
قرار الجهاد في سبيل الله قرار مصيري لا يملكه إلا أهل الحل من العلماء والخبراء وصناع القرار في الأمة.
تعرض للقتال عوارض تجعله في دائرة الممنوع منها العهد والهدنة والأمان، ويشمل ذلك في عصرنا التأشيرة والإقامة واللجوء السياسي والاتفاقيات الإقليمية والدولية.
الغلو في التكفير أخطر أنواع الغلو الفكري لما ينجم عنه من آثار كارثية يعم أثره الأمة في حاضرها ومستقبلها.
ضعف التأصيل العلمي يخرج نماذج مشوَّهَة ومشوِّهَة تقرأ الدين قراءة سطحية مجتزأة.
لا يكون الحكم شرعيا والقرار سالما من الغلو ما لم تفهم النصوص والقواعد فهما سليما، ويشخص الواقع ويتصور تصورا دقيقا وينزل الشرع على الواقع تنزيلا صحيحا.
إعلان تنظيم محدود العدد والإمكانات الخلافة العامة على المسلمين أخطر أنواع الغلو العملي.
عدم مراعاة الضوابط الشرعية أثناء ممارسة القتال والتنكر لمقتضيات ما تمليه السياسة الشرعية من التفريق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين دركة من دركات الغلو.
معالجة غلو التنظيمات بغلو الدول يجذر الظاهرة ويعطيها المشروعية.
العدل مع الشباب المبتلى بهذه الظاهرة وتفهم دوافعه وتحقيق بعض مطالبه من شأنها أن تكون لبنة يبنى عليها وعربونا للحوار يتأسس عليه.
ضبط غلو الشباب بالتبصير بالعلم النافع عن طريق علماء ثقات واحتوائهم أولى من التحالف مع أعداء الأمة من الغزاة في حملة اجتثاثهم.